الحجامة وسيلة تراثية قديمة أُستخدمت للعلاج والوقاية منذ عهود موغلة في القِدم؛ ولكن مع تقدم المعرفة الطبية وتغير نظرة الأطباء المعاصريين لطبيعة الامراض التي تصيب الإنسان ومسبباتها ؛ ومع تطور علم التشريح والاقتراب أكثر من تركيب ووظائف أعضاء جسم الإنسان ؛ كان من الطبيعي أن تتغير رؤية الأطباء المعاصريين للحجامة وأدواتها وتقنيات تطبيقها وممارستها ودواعي استخدامها عن الأطباء القدامى وإن تشابهت الفكرة الرئيسة التي يقوم عليها هذا النوع من الممارسة الطبية .
ولهذا ؛ فبينما ترتكز الحجامة الحديثة اليوم على تصورات ونظريات تختلف عن تلك التي ارتكزت عليها الممارسة القديمة للحجامة ؛ فإنها لاتزال تمارس باستخدام فكرة كاسات الهواء ذاتها التي كانت تستخدم في الطب الشعبي ؛ فالحجامة الحديثة نظرياً ما هي إلا عملية تطبيق الكاسات المعروفة في الطب الشعبي على موضع معين . ولكنها عملياً تختلف اختلافاً جوهرياً يجعلها تبدو كممارسة جديدة كلياً . فالحجامة الحديثة تمارس اليوم في عيادات طبية ومراكز متخصصة وبطريقة علمية وباستخدام أجهزة حديثة تيسر عملية الحجامة على الطبيب والمريض معا , ومن خلال أدوات عصرية مُعقمة تُستخدم لمرة واحدة .
وبعيدا عن تفاصيل عملية الحجامة ؛ فقد حدث تطوير كبير أيضاً في فلسفة وطريقة تحديد نقاط الحجامة المناسبة لكل مرض. وأُضيف إلى تقنيات ممارسة الحجامة ملاحظات فنية كثيرة منها ما يتعلق بزمن تطبيق كأس الحجامة ودرجة الضغط السلبي على كل نقطة وكمية الدم التي لا ينبغي تجاوزها في كل جلسة . وهي قواعد وضوابط لم يكن يلتفت لها ممارسو الحجامة القدامى. وخرائط النقاط التي تطبق الحجامة عليها , هي أيضاً تعرضت لكثير من التطوير والتنقيح . وهي متشابهه ومتقاربة وإن تنوعت المدارس النظرية التي ترتكز عليها.
وعند ممارسة الحجامة الحديثة أيضاً ؛ يتم تشخيص المرض أولاً وفقاً لقواعد وأسس الطب العصري الحديث ؛ التي ترتكز على شكوى المريض ونتائج الفحوصات التشخيصية ممثلة في التحاليل والأشعات التخصصية . وبناء على التشخيص يتم تقييم جدوى الحجامة لهذه الحالة المَرضية بعينها ؛ ومن ثم يتم تحديد المواضع المناسبة لكل مرض والتي تختلف حسب حالة كل مريض أيضاً .
وهكذا ؛ ولدت الحجامة من بطن التاريخ ميلاداً جديداً .. وعلى الرغم من كونها ليست من بين العلاجات الموصّى بها مِن قِبل كبار الأطباءِ، فقد بدأ الأطباء الشبان يتعرفون عليها ويتقبلونها ويتحمسون لدراستها ؛ كصورة من صور الطب البديلَ التي تشمل كل أساليب الاستشفاء من جلسات التأمل والعلاج التخيلي وطرق إزالة التسمم وتناول الفيتامينات ومكملاتها وعمليات التدليك (Massage ) والعلاج بالعطورِ (Aromatherapy ) , واستخدام طريقة " باخ" العلاجية[1] ؛ والمعالجة المثلية[2] ( Homoeopathy ) العلاج الإنعكاسي ( Reflexology)، والعلاج بتقويم العمود الفقري، والوخز بالإبري[3] ( Acupuncture) ؛ والعلاج بالضغط اليدوي ( Accupressure ) ؛ حيث أَصْبَحَت تلك الأنماط العلاجية أكثر رواجا وشعبيَة بعد أن اجتذبت العديد من المرضى الهاربين من جحيم العقاقير الكيميائية.
وعلى هذا النحو عادت الحجامة إلى الساحة العلاجية ولكن في ثوب عصري جديد يختلف عن الشكل التقليدي الذي ظل مزدهرا على المستوى الشعبي في البوادي والمناطق الريفية. واليوم تنتشر ممارسة الحجامة بطريقة عصرية في كثير من البلدان الأوروبية وعدد من الولايات الأمريكية . وباتت الحجامة الحديثة تحتل موقعاً بارزاً بين وسائل الطب البديل ( Alternative Therapy ) و العلاج الطبيعي ( Physiotherapy ) تعليماً وتطبيقاً بعد أن لفتت التأثيرات العلاجّية للحجامة إنتباهِ الأوساط العلمية والشعبية على حد سواء وغدت محل اهتمام المرضى والأطباء معا وشهدت شعبيتِها ثراءً عظيما . ففي ألمانيا، بين عامي 1987 و1992، جرب حوالي 32 إلى 64 % مِنْ المرضى المصابين بإلتهاب المفاصل المُزمن ( Chronic arthritis ) الحجامة كأحد الأساليب العلاجية الغير مألوفة للمعالجةِ [4]
**
[1] هي طرق علاجية قائمة على استخدام المستحضرات الطبية المستخلصة من الزهور لعلاج حالات الاكتئاب والأرق والقلق وغيرها من الاضطرابات المزاجية .
[2] طريقة لعلاج الأمراض تعتمد على تناول جرعات صغيرة من أحد العقاقير الذي إن تم تناوله بكميات كبيرة ؛ يحدث أعراضاً عند الأصحاء شبيهة لتلك التي تميز المرض نفسه.
[3] الوخز بالإبر هو طريقة علاجية لتخفيف الشعور بالألم أو إعطاء الجسم الشعور بالتخدير الموضعي عن طريق وخز الجلد في مواضع معينة بإبر رفيعة جداً تعطي ذلك الاحساس.
[4] Miehle W (1995): Chronic polyarthritis--treatment with alternative medicine. How frequent is (self-) therapy with alternative methods?, Fortschr Med. 1995 Mar 10;113(7):81-5.
(من كتاب : الحجامة بين العلم والدين للدكتورة صهباء بندق )